طلعت الشمس على مرآب (سيارات) المدينة , و لا من مسافر الى نقطة (بدرة وجصان) الحدودية سواي . ما هي الا برهة من الزمن حتى اطل علينا رجل اربعيني العمر , بهي الطلعة جميل المظهر . القى علينا التحية ثم توجه نحوي قائلا (رايح للحدود) فقلت له نعم , فاجابني قائلا ( نتقاسم الكروة ونتوكل على الله). كان فرحا طوال الطريق الى الحد الذي لايعرف فيه عن اي شيء يتحدث , حتى تنبه لذلك فقال بارتباك وخجل حتى احمر وجهه (هاي اول مرة اطلع بيها خارج العراق ) وسكت , ثم اردف قائلا (انت تندل الطريق) , فقلت له نعم وانا احرك رأسي , فابتسم ابتسامة عريضة وقال (انت وين رايح ) , قلت له ( الى المطار). فطلب مرافقتي في طريقي الذي قد يستغرق زهاء (عشر ساعات بالتاكسي ) ووافقت . ما هي الا هنيهة حتى استدرك قائلا , كنت احلم بمثل هذه الرحلة ايام الحرمان التي خلت من عمري ,في لحظات كان يستذكر بها زملائي في المهنة من المعلمين و المدرسين القدماء رحلاتهم الصيفية للسياحة في اوربا او اي بقعة في العالم . استطرد في القول حتى كشف لي عن سريرته و فتح لي عن قريحته وادلى بدلوه ,ليتنفس الصعداء عن عبرة خنقته طوال سنوات عجاف ايام الحصار والمحنة . ففضفض عن ذكرياته الاليمة دون خوف او وجل , لقد بين من انه على الرغم من عوزه و جوعه الا انه ظل متمسكا بالقيم التربوية النبيلة بكل شرف وعفة . اذ انه لم ينس يوم ما كان يفترش ارصفة الطرقات بسلع لاتدر عليه ربحا اكثر من 500 دينارباليوم . مبلغ لايكفي لشراء (قوطية بيبسي كولا )او موزة واحدة يمكن ان تزين مائدة طعامه الباذنجانية بلون صفرتها وقوامها المميز . الموزة التي بوجودها قد تخرق روتين مائدة المحاصرون المستديمة من شواء الباذنجان في الافطار , و(مرﮔرته ) في الغداء و(ﮔلي) في العشاء. ( وحش الطاوة ) مثلما كان يحب ان يسميه كدعابة نقدية لاوضاع صعبة عاشها بتحدي , كلامه كان لايخلو من روح فكاهية بنكهة عراقية حاضرة في السراء والضراء .ما الباذنجان الذي كان له الفضل على هذه الشريحة وغيرها من شرائح المجتمع العراقي في صراع البقاء من اجل الحياة التي نخر منها الجوع منخرا وصل حد النخاع الا واحدا من ابطال نكت كثيرة روجت انذاك. لكن الشعور بان ثمة هناك بصيص نور في نهاية النفق كان مصداقاً لباب من ابواب الفرج , واملا قد يأتي من حيث ندري او لاندري , في اي لحظة . كيف لا و صاحب الفرج موجود , وان ضاقت علينا الدنيا بسعتها و احاطت بنا شدائدها , فقولنا صبراً جميلاً ( ما من شدة الا وراءها فرج) و المثل الشعبي يقول ( ما تضيج الا تفرج).
جاء الفرج ببشارة اول الغيث التي ازاحت هموم خيمت على نفس صديقي وزميلي الكاتب و الاعلامي المرحوم عبد الكريم عطية الذي صرخ في مقالته ( الموز يسقط الباذنجان بالضربة القاضية ) , صرخة بوجه ايام القحط والجوع والذلة , ليقول وداعا للفقر , الذي نزل بمربي اجيال فاضل في خريف العمر الى ناصية شارع العلاوي في مدينة الديوانية و هو يقبض بيده على مجموعة قطع صغيرة ويقول ( درزن امواسة بربع ) او زملاء اخرون تجرعو مرارة الغربة في سوريا , ليبيا , اليمن والاردن ( الله يعطيك العافية يازلمة ) طلبا للعيش بكرامة لا اكثر.
لقد نزل الغيث مؤخرا مع تنفيذ قراري رواتب موظفي الدولة والقطاع العام وقانون الخدمة الجامعية ليضعا حدا لهذه المعاناة, فضلا عن طريقة الاحتساب باثر رجعي لمطلع العام الحالي التي حققت اماني صاحبي ورفيق سفري الذي اقسم بان يقضي ما لايقل عن عشرة ايام في كل دولة من دول الجوار للعراق (ايران , تركيا,سوريا,الاردن) قبل عودته الى الوطن ليجد ما يشارك به زملاء المهنة من حديث رحلاتهم السياحية .
انه رد اعتبار اعاد المياه لعروقها بعد ان فقدت وجوه هذه الشريحة نظارتها وهيبتها في المجتمع . ليترفها اجتماعيا فتغيرت معالم كانت تعرف بها مثل قيادة (البايسكل : الدراجة الهوائية ) بلباس رسمي تزينه ربطة عنق مميزة مع حقيبة متوسطة الحجم . معالم هذه الشريحة الجديدة هي البحث عن سيارات حديثة مكيفة, او تغليف واجهات المنازل بالسيراميك الذي يتحضن (سبلت واحد او اكثر ) لان مكيف الهواء العادي لايلبي متطلبات الراحة العصرية لاصداره صوت مزعج , غسالة (فول اتوماتيك) , ثلاجة ببوابتين ,طقم (قنفات ) منفوخ او ملكي ووهواتف نقالة لها قدرة التصوير ( فوتو وفيديو) مع ثلاثة خطوط ( اسيا سيل , اثير , عراقنا) . بحبوحة الرفاهية التي تعيشها هذه الشريحة هذه الايام . دفعت البعض منهم الى الهروب من صيف العراق اللاهب , للاستجمام في تركيا هذه المرة التي ربما تكون نافذتهم للسياحة في اوربا في المستقبل القريب . انه ترف ربما ما بعده قد يكون ( اترف ) من حيث ان اخر التصريحات الحكومية تشير الى نوايا رفع مستوى الرواتب لتكون الاعلى في منطقة الخليج العربي والشرق الاوسط . لذلك لاعجب وانا اتصفح الايميلات المرسلة من ( اراك كومتي) , (سيارة للبيع , البحث شقة للايجار , ووووووالخ) ,واغلب اصحابها من المستفيدين من فروقات الراتب الجديد , الذين لم يدخروا جهدا في تحسين اوضاعهم المعيشية .
خلاصة القول انها لخطوة تحسب لحكومة السيد المالكي على هذا المردود الايجابي في تحسين اوضاع اكبر شريحة في المجتمع العراقي . في الوقت نفسه, انه اول الغيث الذي ننتظر دوامه ليشمل عدد لا يستهان به من موظفي العراقية الدارسين بالخارج , والذين حرموا من هذه النعمة لسبب او لاخر او شمول طلبة النفقة الخاصة من غير الموظفين بعين الرعاية والمسؤولية ليعم الخير على الجميع , انه قليل من كثير نأمل ان تحققه هذه الحكومة قبل انتهاء ولايتها ,لرد الاعتبار الشخصية العراقية و هيبتها لتكون سيدة نفسها اينما حلت و نزلت وهذا اقل ما تستحق .
الأحد أغسطس 24, 2008 8:49 pm
